حول الفنّ التشكيليّ الفلسطينيّ | أرشيف

بداية التراجيديا، إسماعيل شمّوط، (1953).

 

المصدر:  «مجلّة مواقف»

الكاتب(ة): سمير الصايغ 

زمن النشر: حزيران (يونيو) 1970

***

 

(بمناسبة معرض إسماعيل شمّوط وتمام الأكحل في فندق الكارلتون بين 8-18 من شهر أيّار 1970).

 

ما هو الفنّ الفلسطينيّ؟ ما هي صفاته؟ ماذا يقول؟ من هم العاملون فيه؟

أظنّ أنّ هذه الأسئلة قد تحلّق عبثًا في فكر الباحث عن الفنّ دون أن تجد أجوبة لها؛ اجوبة مقنعة تحضن الفنّ لتواكبه في استمراره وفعله. فمن السذاجة أن نسمّي الأعمال التي تعبّر بشكل من الأشكال عن القضيّة الفلسطينيّة فنًّا فلسطينيًّا، لأنّ الانتساب إلى الأرض وحده والالتجاء إلى موضوع محدّد كذلك يقصران في تحديد فنّ ما، إذ ما تزال لغة اللوحة لغة إنسانيّة صاعدة من التاريخ والإنسان.

لكنّنا نخطئ كذلك حين نرمي الفنّ الذي يبدعه هذا الإنسان الفلسطينيّ إلى خارج الوطن والزمن، بذلك نرميه خارج الإنسانيّ وخارج العالميّ، لأنّنا نقتل فيه بذور الولادة ونقطع جذوره التي يمتصّ بها الحياة.

ثمّة مسافة بين هذين الطرفين، هي مسافة يقف عليها الإنسان العربيّ بشكل عام، محاصرًا بهمومه المتراكمة من التراث والتاريخ الزاحف إليه من المستقبل، هي هجوم صنع حياته من جديد يومًا يومًا ولحظة لحظة.

يقول إسماعيل شمّوط: "أعتقد أنّه يكفي الفنّان، لخدمة فلسطين، أن يبرز كفنّان، فعازف البيانو الفلسطينيّ لا يعزف سوناتا عن فلسطين، بل يخدم قضيّته أكثر حين يبرع في عزف شوبان أو بيتهوفن… موضوع الفنّان لا يهمّ بقدر أهميّة الفنّان بالذات".

عندما يؤكّد إسماعيل شمّوط على أهميّة الفنّان، يجعلنا نسأل أسئلة جديدة عمّا يميّز هذا الفنّانن عن الفنّان الآخر، وما هي هموم هذا الفنّان، إذ أنّنا نلحظ نقاشًا قاسيًا وحادًّا يدور حول صفات هذا الفنّان الذي يؤكّد على أهميّته إسماعيل شمّوط وعلى مميّزات فنّه.

لكنّنا نلمح مع هذا الفنّان أنّ الفنّ عالم كامل بحدّ ذاته يتطلّب قدرة وصبرًا ودرسًا واجتهادًا للدخول فيه والعيش في طقسه ومناخه، كما يتطلّب إلى ذلك قدرة نسمّيها نحن إبداعًا للّعب في هذا العالم وتطويره أو صنعه من جديد، إذ ليس الفنّ وسيلة تخدم السياسة (أو أيّ شيء آخر)، لتكون السياسة وأهدافها غاية أخيرة. قد يلتقي الفنّ والسياسة وهما يلتقيان دائمًا، لكن لقاء وجود كامل بوجود كامل، وليس لقاء وسيلة مع هدف، شكل مع مضمون.

معرض لإسماعيل شمّوط في بيروت (1970)

من هُنا نستطيع أن نفهم أنّه ليس هناك فنّ فلسطينيّ بالمعنى الحرفيّ لهذه الكلمة، بقدر ما هناك فنّان فلسطينيّ مبدع أو غير مبدع، قادر في الفنّ أو غير قادر، على ممارسة وجوده كفنّان وإنسان يحيا في زمن صعب.

اللوحة الفلسطينيّة التي تلتجئ إلى موضوع التشرّد أو حزن المشرّدين لتصف لنا الخيمة أو تصف لنا - من جديد - الفدائيّ، وتكتفي بهذا الوصف وتحتمي بهذا الموضوع، لتؤلّف لها مناخًا خاصًّا، تسقط أمام الفنّ وتسقط كذلك أمام الإنسان، لأنّها بهذا العمل تستغلّ الموضوع وتنمو كالأعشاب الطفيليّة على جذعه - وأيّ موضوع كان، سواء حمل صفات الإنسانيّ أم لا، يعجز أن يحيي اللوحة ويدفعها إلى الحركة واللفعل إذا تخلّت اللوحة عن خطّ الفنّ النامي والمتجدّد منذ اليوم الأوّل للإنسان، ماسكة بطرف ذلك الخيط المحيي المغير، آخذة به نحو المستقبل.

هنا يلتقي الفنّان الفلسطينيّ مع أيّ فنّان عربيّ آخر ليعملا سويًّا في إيجاد طرف الخيط الذي انقطع وضاع في فترة الانحطاط التي مرّت بها هذه المنطقة، ليمسكا به من جديد، ومنه ينفذان إلى الخاصّ والعامّ في وقت واحد.

إنّ قول إسماعيل شمّوط: الفنّان هو المهمّ، يعني فيما يعني أنّ ممارسة هذا الفنّان لحياته هي التي تؤلّف فنّه، إذ أنّ الحزن والبؤس والآلام ليست أمراضًا تصيب الإنسان، بمعنى أنّه لا ذنب له هو في وقوعها، بل إنّها غياب هذا الإنسان عن ممارسة وجوده ممارسة حقيقيّة.

وغياب الفنّ هو كذلك غياب الفنّان عن ممارسة وجوده الفنّي، فعندما نقول الفنّ هو الحياة، فلا يعني ذلك أنّه الهواية أو الأداة، بل يعني أنّه عالم يدعوك لأنّ تدخله وتملأ وسوف يضربك ويؤلمك ويحطّمك إن لم تستطع أن تكون سيّدًا على أرضه.

ماذا يقدّم لنا من جديد إسماعيل شمّوط وتمام الأكحل في معرضهما؟ الجديد الأوّل الذي يقدّمانه هو السؤال "هل أنا فلسطينيّ أم فنّان؟" والجديد الثاني هو إدراكهما أنّهما فنّانان… بعد هذا لا بدّ أن يخطو إسماعيل شمّوط وتمام الأكحل خطوات جريئة نحو الفنّ.

 


عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.